فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا من القرآن فالحقوها. فألحقت في آخر براءة.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد به شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. فقالوا: ما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} إلى آخر السورة فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزلت من القرآن، فختمت بهما براءة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} الآية.
قال: جعله الله من أنفسهم فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة، عزيز عليه عنت مؤمنهم، حريص على ضالهم أن يهديه الله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {عزيز عليه ما عنتم} قال: شديد عليه ما شق عليكم {حريص عليكم} أن يؤمن كفاركم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاء جبريل فقال لي: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئًا إلا بأمرك. فقال له ملك الجبال: إن الله أمرني أن لا أفعل شيئًا إلا بأمرك، إن شئت دمدمت عليهم الجبال، وإن شئت رميتهم بالحصباء، وإن شئت خسفت بهم الأرض. قال: يا ملك الجبال فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون: لا إله إلا الله. فقال ملك الجبال عليه السلام: أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم».
وأخرج ابن مردويه عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رحيم ولا يضع رحمته إلا على رحيم». قلنا: يا رسول الله كلنا نرحم أموالنا وأولادنا.
قال: ليس بذلك ولكن كما قال الله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا.
قال: «ولم سألتم هذا؟» قالوا: نطلب الأمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رحيم يحب الرحيم، يضع رحمته على كل رحيم».
قالوا: يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا.
قال: ليس كذلك ولكن كونوا كما قال الله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}
قوله تعالى: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}: صفةٌ لرسول، أي: من صميم العرب.
وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي ويعقوب من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء، أي: مِنْ أَشْرَفِكم، من النَّفاسة.
وقوله: {عَزِيزٌ} فيه أوجه:
أحدها: أن يكون {عزيز} صفةً لرسول، وفيه أنه تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح، وقد يُجاب بأنَّ {من أنفسكم} متعلقٌ بجاء، و{ما} يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي، وعلى كلا التقديرين فهي فاعل بعزيز، أي: يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه، أي: عَنَتُهم يُسيئه، فحذفَ العائدَ على التدريج، وهذا كقوله:
يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ** وكان ذهابُهنَّ له ذهابًا

أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون {عزيز} خبرًا مقدمًا، و{ما عَنِتُّم} مبتدأ مؤخرًا، والجملةُ صفةٌ لرسول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ {عزيز} مبتدأ، و{ما} عنتُّم خبره، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى العنت. والأرجح أن يكونَ {عزيز} صفةً لرسول؛ لقوله بعد ذلك: {حريصٌ} فلم يُجعلْ خبرًا لغيره، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجةَ إليه.
و{بالمؤمنين} متعلقٌ برؤوف. ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز: زيدًا ضربتُ وشتمته على التنازع، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال الثاني لا الأولِ لما عُرِف: أنه متى أُعمل الأول أُضْمِرَ في الثاني من غير حذف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}
جاءكم رسولٌ يشاكِلُكم في البشرية، فَلِمَا أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباسَ الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وَكَلَ هِمَمَه بشأنكم، وأكبرُ هَمِّه إيمانُكم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (129):

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أقبل عليه مسليًا له مقابلًا لإعراضهم إن أعرضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتًا إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلًا مسببًا عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها: {فإن تولوا} أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية: {فقل} اي استعانة بالله تفويضًا إليه {حسبي} أي كافي؛ قال الرماني: وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره، ويزيد من نعمته ما لا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر {الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافيًا لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافئ له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه فقال: {عليه} أي وحده {توكلت} لأن أمره نافذ في كل شيء {وهو رب} اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال: {العرش العظيم} أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائنًا من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في {فسيحوا} وفي {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} والله تعالى أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
أما قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يريد المشركين والمنافقين.
ثم قيل: {تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عنك.
وقيل: تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد.
واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدئ لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.
ثم قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه.
فإن قالوا: العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟
قلنا: وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود والنصارى، ولا يبعد أيضًا أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله: {العظيم} بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه.
قال أبو بكر: وهذه القراءة أعجب، لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وأيضًا فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيمًا كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، وإن جعلناه صفة لله سبحانه، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزهًا عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام.
وقال الحسن: هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن، وما أنزل بعدهما قرآن.
وقال أبي بن كعب: أحدث القرآن عهد بالله- عز وجل- هاتان الآيتان، وهو قول سعيد بن جبير، ومنهم من يقول: آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281].
ونقل عن حذيفة أنه قال: أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة، وهي سورة العذاب ما تركتم أحدًا إلا نالت منه، والله ما تقرؤن ربعها.
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها، لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلًا على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا خفاء أن القول به باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
وهذا آخر تفسير هذه السورة، ولله الحمد والشكر.
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني: إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك، {فَقُلْ حَسْبِىَ الله} يعني قل: كفاني الله وفوضت أمري إلى الله ووثقت به.
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، يعني: لا ناصر ولا رازق ولا معين إلاّ هو.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، يعني: به أثق {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم}، يعني: خالق السرير العظيم أعظم من السموات والأرض.
وقرأ بعضهم {العظيم} بالرفع فجعل العظيم من نعت الله تعالى، وقراءة العامة {العظيم} بالخفض ويكون العظيم نعتًا للعرش.
وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف، كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان، فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة، فلم يطلب منه البينة وأثبته في المصحف.
وروي عن حذيفة أنه قال: يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب.
عن ابن عباس أنه قال: كنا نسميها الفاضحة، فما زالت تنزل في المنافقين ومنهم، حتى أشفق كل واحد على نفسه؛ والله أعلم بالصواب. اهـ.